آخر الليل
تأتيني المشاعر باكية
كما تأتيني كل ليلة
تبحث عن مخرج
تستنجد
تشتكي
تصرخ
ولا سبيل لخروجها
غير أن تهربها بعض دمعاتي الهاربات
وتخرج من جسدي بحرقة بالغة
فالقلب قد أحرقها
وهمومي قد زاحمتها
تشتكيني تلك الهموم
قبل أن أشكوها
تشتكتي كثرتها
تشتكي جمعها في قلب انسان
يغلبني حريق الألم
ويشربني العمر كأسا من نبيذ
يسكر
ويتسمم بسمي
يترنح
يأخذني الى ذكريات الماضي تارة
فيؤلمني
ويعايش حاضري تارة أخرى
فيسأمني
واذا حلمت بمستقبل مشرق
أو تأملت تحقق آمالي
سد طريقي
بجدار الواقع المتجمد
:::::::::::::::::
دخل احدى الأسواق
يريد أن يشتري ساعة
لأول مرة في حياته
يرضى أن ينظر للساعة
لا يعلم كيف شكلها
ولا ما طريقة عملها
صورتها في عقله مبهمة
غير واضحة المعالم
سأل عن موقع البائع ودله أحدهم
فإذا جاء لدى زجاج العرض توقف
والذهول قد احتل ملامحه
جميلة هي الساعة
بعقاربها
ودورانها
و رقة تصاميمها
دخل
وجاءه البائع
فطلب احدى الساعات المعروضة ليمسكها بين يديه
أعطاه البائع ما أراد
واستأذنه كي يهتم بزبون آخر
فأذن له
وعلامات الذهول لا تزال تملأ وجهه
ورجع العمر بعينيه لتأخذ نظرة الأطفال
نظرة مليئة بالفضول
أسئلة بريئة
وإجابات مستحيلة
ما أسرع الثواني
والدقيقة لا تلبث أن تنتهي
والزمن لا يتوقف
العقارب تدور و تدور دون توقف
كما دارت به الحياة
طوال عمره يخشى الساعة
لا ينظر إليها
يكره معرفة الزمان
لا يعلم بتاريخ أي يوم يعيش
لا يعرف متى ولد
يجهل عدد سنين عمره
يخشى الزمن
فكم من السنين عاش فيها حاضره فقط
لا يتذكر الماضي الذي تناساه
ولا يحلم بمستقبل لا يتمنى أن يأتيه
ولكن آن الأوان
لأن يعود إنساناً عادياً
يعود بعد أن توقف
ليعرف في أي وقت هو
في أي عصر يعيش
وأي عمر قد مره في حياته
كم عدد سنين حياته
يريد أن يقلب صفحة جديدة على ماضيه المؤلم
ويبدأ مع العقارب في الدوران
.........
أعجبته الساعة
وقرر شراؤها
ولما التفت لينادي البائع
كانت بناظره
تتأمل المعروض من الساعات
جاهلةً عن نظراته
الى عينيها
الى وجهها المنير
الى ثغرها
الى تكوينها
نظرات مليئة بالبريق
والأنفاس قد توقفت
ويهيج الدماء بشرايينه قلبُ ُ يخفق
بقوة
وبحرقة
يحاول جاهدًا فتح ذلك الباب المغلق
باب الذكريات
باباً قد أوصده قبل زمن طويل
بقفل اليأس
ولا يزال في حيرة من أمره
يجهل موقفه
وبين ثانية وأختها
توقف الزمان
واستكانت عقارب كل الساعات
توقف الهواء
وتوقفت الأرض عن الدوران
فقد تلاقت الأعين
وبكل قسوة
جاءت نظرتها كسيف من حديد متجمد
لتضرب ذلك القفل
وينفجر الباب
بصدى الصرخات
وآلاف الذكريات
وبحار هموم تغرق قلبه
وتظهر على صفحتها صورة طافية
صورة لامرأة
امرأة قد عشقها
امرأة
كانت سبب سعادته يوماً
فلم تبق ِ له بعدها سعادة
وأبقت له الأيام
ليكره زماناً فرقهما
وينبذ كل ماضيه في خزانة مليئة بصور الذكريات
تذكرها
بعد أن عاش حياته متناسياً من تكون
وفي عمق الألم
ومن رحم المعاناة
ولدت دمعة
دمعة
دمعة من جدار الجحيم
دمعة
أحرقت كل ما يتكون منه
دمعة
تأكل معها كل شيء
ماضيه
ذكرياته
مبادئه
براعم أحلامه
دمعة
مثقلة بالألم
لتظهر وبكل جبروت على مقلة جففها الزمان
وتسقط
لتقتحم بثقلها زجاج العرض
وتتفجر على كل الساعات
...
ويعود الزمان ليكمل بعد توقفه
ويتعجل ليعوض مافاته
ويسقط عند أقدامها مغشياً عليه
وتقترب نهاية تلك الروح
والزمن لا يتوقف
ارتمت عليه الفتاة جاهلة السبب
وتسأله
" أي حزن قتلك ؟؟
أي ذكرى حطمتك ؟؟
لا تمت
فأظن أني قاتلتك "
استجمع ما تبقى من روحه في ابتسامة حزينة
ابتسامة تــُـبــكــي من يراها
ابتسامة يتألم لها الثغر
"أعطني الساعة"
فأعطته الساعة
وأمسكها بيمينه
ونظر الى عقاربها
وزجاجها يعكس صورة كهل يشتعل رأسه شيباً
وعادت عيناه إلى عينيها
والحزن قد زاد عرض ابتسامته
وترتخي يمناه
وتسقط الساعة من كفه
مع آخر كلماته
" لا يتوقف عن الدوران!! "
وتخرج روحه
وتحاول جاهدة أن تجد طريقها من بين زحمة الناس حول جسده
وتسقط العبرات من عيني الفتاة الحائرة
و تتلقف تلك الساعة
وتنظر قراءة عقاربها
لتجدها قد بدأت دورة جديدة
و يوماً جديدًا
وتنهض من مكانها في حيرة
وتفتح حقيبتها
وتجد الرسالة
رسالة من شخص قررت فراقه
كانت رسالته الأخيرة في نظرها
لتفتحها
وتتأمل كلماتها
وتصرخ مصدومة
فقد كانت نهاية تلك الرسالة
" بدونك
تتوقف ساعة حياتي عن الدوران "