عندما يراسل رئيس الجمهورية قيادة الجيش طالبا منها الشروع في إحالة أربعين بالمائة من الضباط الذين بلغوا من السن عتيا على التقاعد، فإن ذلك يعني بالضرورة أن هؤلاء الضباط لا يفكرون في مغادرة الجيش من تلقاء أنفسهم، بالرغم من أن الكثير منهم، كما تقول بعض المصادر، تجاوزوا سن السبعين... كما تعني رسالة الرئيس أن مصالح وهيئات المؤسسة العسكرية التي يفترض فيها القيام بمهامها تطبيقا للقوانين السارية، لا تقوم بالدور المنوط بها وهو ما دفع بالرئيس إلى التحرك المباشر... إن رسالة الرئيس تقول بصريح العبارة أن القانون لا يطبق داخل الجيش، وإلا ما معنى ألا تقوم مصلحة أو مصالح الموظفين أو مديرية الموارد البشرية، ومن تلقاء نفسها بإعداد قوائم المعنيين بالتقاعد؟
أخطر من هذا... عندما يحدد الرئيس في رسالته نسبة الأربعين بالمائة، فإن ذلك يعني أن نسبة الطاعنين في السن ممن لا زالوا عاملين في الجيش أكبر من هذا بكثير، وفي هذه الحالة فإن الشيخوخة تبقى هي المتحكمة في قيادة جيشنا حتى بعد إحالة نسبة الأربعين بالمائة على التقاعد.
لنتأمل هذه الصورة الكاريكاتورية... ضباط يمتد تواجدهم داخل صفوف الجيش إلى أيام ثورة التحرير، ولا زالوا مصرين على البقاء في مناصبهم وقد يبقون فيها حتى بعد رسالة الرئيس، وبالمقابل هناك عشرات، ولِمَ لا مئات الضباط من جيل الاستقلال تمت إحالتهم على التقاعد!
لا شك أن الأمر غريب، لكن الأغرب منه هو أن هذه المصيبة ليست حكرا على المؤسسة العسكرية فقط، وإنما منتشرة بكل مؤسسات الدولة وفي جميع المستويات، وهو ما يعني بالضرورة أن لا مستقبل لشباب بلد، تقول إحصائيات السلطة الحاكمة إنه يشكل حوالي سبعين بالمائة من مجموع السكان. فهل بقي لنا أن نتساءل عن أسباب ومبررات ''حرفة'' الآلاف من أبنائنا إلى ما وراء البحار؟
لا شك أن الرئيس يعلم علم اليقين أن معظم الوجوه التي تتشكل منها السلطة تجاوزت سن التقاعد وهم من جيله، بل إن الكثير من المسؤولين سبق وأحيلوا على التقاعد، ثم عادوا لممارسة نفس المهام أو مهام مشابهة في مؤسسات غير التي كانوا بها، ولا شك أن الرئيس يعرف معرفة يقينية أن الأغلبية الساحقة من أعضاء الثلث الرئاسي بمجلس الأمة على سبيل المثال متقاعدون، والأمر ينسحب كذلك على نسبة كبيرة من نواب الغرفتين، ومختلف مستشاري الوزراء والأمناء العامين والسفراء، لكن مع ذلك يصرون هم ومن وظفهم ثانية على البقاء جاثمين على صدر البلد بحجة الاستفادة من خبراتهم، فأي خبرة هذه التي تصادر حقوق أجيال كاملة من نخب البلد المتعلمة، فهل يعقل أن تتحوّل الخبرة إلى كارثة؟
بقي أن نقول إن أسماء بعض المسؤولين، ومن كثـرة معاشرتها لآذاننا خلال عقود من الزمن، أصبحت وكأنها أسماء قادمة من تاريخنا القديم.