بسم الله الرحمن الرحيم
فيما تتميز به الصغائر من الكبائر
مسألة: الجزء الأول
إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها ، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهي من الكبائر . فمن شتم الرب أو الرسول أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة .
وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر .
وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ، ويغتنمون أموالهم ويزنون بنسائهم ويخربون ديارهم ، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليته يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر .
وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه ، ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه تؤخذ منه تمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر ، وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر ، وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فهذا مشكل ، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد ، كما جعل شرب قطرة من الخمر من جملة الكبائر وإن لم يتحقق المفسدة فيه ، ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السرقة . [ ص: 24 ]
والحكم بغير الحق كبيرة فإن شاهد الزور متسبب متوسل والحاكم مباشر فإذا جعل التسبب كبيرة فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة ، ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله وكلهم عالمون بأنهم ظالمون فشهادة الزور كبيرة والحكم أكبر منها ومباشرة القتل أكبر من الحكم ، والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزة ولا يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى ، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت ، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب ، ولا يلزم من النص على كون الذنب كبيرة أن يكون مساويا لغيره من الكبائر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : { إن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله وكيف يشتم الرجل والديه ؟ فقال . نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه } . رواه مسلم في الصحيح . جعل صلى الله عليه وسلم التسبب إلى سبهما من الكبائر ، وهذا تنبيه على أن مباشرة سبهما أكبر من التسبب إليه .
وفي رواية البخاري : { إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الله ، وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه }
جعل اللعن من أكبر الكبائر لفرط قبحه بخلاف السب المطلق . وقد نص الرسول عليه السلام على أن عقوق الوالدين من الكبائر ، مع الخلاف في رتب العقوق ، ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه ، فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما ، ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء ، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ، ولشدة تفجعهما على ذلك ، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو على عضو من أعضائه ، وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى . وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال . كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فهو من الكبائر . فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به .
وكذلك قتل [ ص: 25 ] المؤمن كبيرة لأنه اقترن به الوعيد واللعن والحد ، والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها ، وعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو اللعن أو الحد أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة .
مسألة: الجزء الثاني
( فائدة ) فإن قيل الكذب فيما لا يضر ولا ينفع صغيرة فما تقولون فيمن قذف محصنا قذفا لا يسمعه أحد إلا الله تعالى والحفظة ؟ مع أنه لم يواجه به المقذوف ولم يغتبه به عند الناس ، هل يكون قذفه كبيرة موجبة للحد مع خلوه من مفسدة الأذى ؟ قلنا الظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة ولا يعاقب في الآخرة عقاب المجاهر في وجه المقذوف أو في ملأ من الناس ، بل عقاب الكذابين غير المصرين وقد قال الشاعر :
فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
شبهه بالذي لم يقل لانتفاء ضرره وأذيته ، فإن قيل إذا اغتابه بالقذف لم يتأذ المقذوف مع غيبته ، فلم أوجبتم الحد مع انتفاء مفسدة التأذي ؟ قلنا لأن ذلك لو بلغه لكان أشد عليه من القذف في الخلوة ، ولأنه إذا قذفه على ملأ من الناس احتقروه بذلك وزهدوا في معاملته ومواصلته ، وربما أشاعوا ذلك إلى أن يبلغه وليس كذلك قذفه في الخلوة ، والإنسان يكره بطبعه أن يهتك عرضه في غيبته وأما قذفه في الخلوة فلا فرق بين إجرائه على لسانه وبين إجرائه على قلبه .