لشعر والشاعر٭
ميخائيل نعيمة
.
إذن – تسألونني – هل الشعر خيال فقط وتصوير ما ليس كائنا كأنه كائن؟
أهي خيال أو وهم إذن؟
كلا فليست وهمًا ولا خيالاً بل حقيقة محسوسة. أنتم لم تبدعوا الربوة ولا الغابة ولا اختلفتم البحر ولا الشمس ولا الفضاء ولا الجدول. كل ذلك رأيتموه وشعرتم بوجوده. ولكنكم قد قابلتهم وميزتم، ونبذتم واخترتم ثم رتبتم ما اخترتموه في نسبة معلومة كانت نتيجتها الصورة التي رسمتها لكم المخيلة. جرى ذاك كله وأنتم لم تغيروا حقيقة الموجودات. لم "تخلقوا" شيئًا إنما أخذتم ما وجدتموه في الطبيعة فطرحتم منهم وزدتم عليه، وبدلتم في ترتيبه حتى حصلتم على ما طلبته وأحبته أنفسكم.
وهكذا يفعل الشاعر. إذا سمعتموه يتغزل بجيل ذهبي، بجيل لا أثر فيه للظلم والبغض والفقر والحسد والنزاع والموت، بجيل يسود فيه الحب والعدل والإخاء والمساواة وهلم جرا – فلا تنعتوه بالجنون والكذب والوهم. هو لم يخلق الحب ولم يوجد العدل ولا سبَّب الفقر ولا قال للموت كن فكان. هو وجد هذه الصفات والأحوال في العالم عند زيارته هذا العالم. لكن روحه التي تعشق وتنفر من القبيح قد وضعت هذه الصفات في نسبة جديدة غير التي نراها سائدة في حياتنا اليومية. وتغير النسبة هو اختلاق الشاعر الذي ندعوه "خيالاً" لكن خيال الشاعر حقيقة. والشاعر الذي يستحق أن يدعى شاعرًا لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته ولو كانت عينه المادية أحيانًا قاصرة عن رؤيته. ذاك لا يعني أن الشاعر يقدر أن يدعو الأسود أبيض والأحمر أصفر – أي أن يعري الأشياء الحقيقية عن مميزاتها الطبيعية ويعطيها صفات من عنده داعيًا ذاك "خيالاً".
كلا. وهذا كل الفرق بين الشاعر والشعرور. الشاعر لا يصف إلا ما يدركه بحواسِّه الجسدية أو يلامسه بروحه. لسانه يتكلم من فضلة قلبه. أما الشعرور فيحاول أن يقنعنا أنَّه حلم أحلامًا نحن نعلم علم اليقين أنها لم تمر له برأس لا في النوم ولا في اليقظة، ويصف لنا عواطف لم يشعر بمثلها لا بشر ولا جنٌّ ولا ملاك من أول وجود هذا العالم حتى اليوم. لذاك تهزنا أشعار الأول فنحفظها ونرددها، وتضحكنا "قصائد" الثاني فنضرب بها عرض الحائط.
وما هي الغاية من الشعر؟
قوم يقولون: إن غاية الشعر محصورة فيه ولا يجب أن تتعداه (الفن لأجل الفن)، وآخرون: إن الشعر يجب أن يكون خادمًا لحاجات الإنسانية وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصر عن هذه المهمة. ولهذين المذهبين تاريخ طويل لا نقدر أن نأتي به هنا، ولا غاية لنا أن نبحث في حسنات كل منهما وسيئاته. إنما نكتفي أن نقول إن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه، ينظم ما يطلبون منه فقط ويفوه بما يروقهم سماعه. وإذا كان هذا ما يعنيه أصحاب المذهب الأول فلا شكَّ أنهم مصيبون. لكننا نعتقد في الوقت نفسه أن الشاعر لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحيه إليه نفسه فقط سواء كان لخير العالم أو لويله. وما دام الشاعر يستمد غذاء لقريحته من الحياة فهو لا يقدر – حتى لو حاول ذلك – إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره فيندِّد هنا ويمدح ويكرز هنالك. لذاك يقال إن الشاعر ابن زمانه، وذاك صحيح في أكثر الأحوال إن لم يكن في كلها.
والآن بعد أن بحثنا، ولو سطحيًا، في الشعر لنقف ونسأل: من هو الشاعر؟ الشاعر نبي وفيلسوف ومصور وموسيقي وكاهن، لأنه يرى بعينيه الروحية مالا يراه كل بشر. ومصور، لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وموسيقي، لأنه يسمع أصواتًا متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة. العالم كله عنده ليس سوى آلة موسيقية عظيمة تنقر على أوتارها أصابع الجمال وتنقل ألحانها نسمات الحكمة الأبدية. هو يسمع موسيقى في ترنيمة العصفور وولولة العاصفة، وزئير اللجَّة وخرير الساقية. ولثغ الطفل وهذيان الشيخ. فالحياة كلها عنده ليس سوى ترنيمة – محزنة أو مطربة يسمعها كيفما انقلب. لذاك يعبِّر عنها بعبارات موزونة رنانة. الوزن والتناسب في الطبيعة أخوان لا ينفصلان وبغيرهما "لم يكن شيء مما كوِّن".
والشاعر الذي تعانق روحه روح الكون يدرك هذه الحقيقة أكثر من سواه.
لذاك نراه يصوغ أفكاره وعواطفه في كلام موزون منتظم. الوزن ضروري بروي واحد يلزمها في كل القصيدة. عندنا اليوم جمهور من الشعراء يكرزون "بالشعر المطلق" ولكن سواء وافقنا "والت هويتمان" وأتباعه أم لا فلا مناص لنا من الاعتراف بأن القافية العربية السائدة إلى اليوم ليست سوى قيد من حديد نربط به قرائح شعرائنا – وقد حان بتحطيمه من زمان. وأخيرًا، الشاعر كاهن لأنه يخدم إلهًا هو الحقيقة والجمال. هذا الإله يظهر له في أزياء مختلفة وأحوال متنوعة. لكنه يعرفه أينما رأه ويقدم لنا تسابيح حيثما أحست روحه بوجوده. يراه في الزهرة الذاوية والزهرة الناضرة. يراه في حمرة وجنة الفتاة وفي اصفرار وجه الميت. يراه في السماء الزرقاء والسماء المتلبِّدة بالغيوم، في ضجة النهار وسكينة الليل. وبالاختصار، إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة وقلبه يردد صداها ولسانه يتكلم "بفضلة قلبه" تتأثر نفسه من مشهد يراه أو نغمة يسمعها فتتولد في رأسه أفكار ترافقه في الحلم واليقظة فتمتلك كل جارحة من جوارحه حتى تصبح حملاً يطلب التخلص منه. وهنا يرى نفسه مدفوعًا إلى القلم ليفسح مجالاً لكل ما يجيش في صدره من الانفعالات وفي رأسه من التصورات، ولا يستريح تمامًا حتى يأتي على آخر قافية، فيقف هناك وينظر إلى ما سال من بين شفرتي قلمه كما تنظر الأم إلى الطفل الذي سقد من بين أحشائها. أمامه فلذة من ذاته وقسم من كيانه.
الشاعر – ونعني به الشاعر لا "النظام" – لا يأخذ القلم في يده إلا مدفوعًا بعامل داخلي لا سلطة له فوقه. فهو عبد من هذا القبيل. لكنه سلطان مطلق عندما يجلس لينحت لإحساساته وأفكاره تماثيل من الألفاظ والقوافي لأنه يختار منها ما يشاء. فيختار الأحسن إذا كان من المجيدين أو ما دون ذلك بالتدريج حسب قواه الفنية والأدبية، أما "النظام" فيأخذ قلمًا وقرطاسًا ثم يبدأ بوخز دماغه وقريحته علَّه يتمكن من أن يهيجهما ولو قليلا. غايته لا أن يترجم عن عواطف أو أن يعبِّر عن أفكار بل أن "ينظم قصيدة" لذاك إذا خدعنا هذا بطلاوة نسقه فلا يطول أن نكتشف تصنعه وخداعه فننساه وننسى قصيدته. أما الشاعر الذي يسقي قلمه من قلب طافح وروح هائجة فربما لا نفهمه اليوم ولا نهتم به، لكن لا بدَّ أن نفيق غدًا وندرك هفوتنا لأن الجمال – كالشمس – لا يختفي. وحينئذ نسرع لنفكر عن إساءتنا إلى ذاك الشاعر ولو بعد موته.
فنعلي مقامه ونقيم له التماثيل إن لم يكن على ملتقى الطرق أو في ساحات المدن ففي قلوب تختلج عند مطالعة ما جاد به قلمه. هذا ما جرى لشكسبير وكثيرين سواه من كبار الشعراء والكتَّاب. لكن شكسبير لم يمت ولن يموت. أما ألوف "النظامين" الذين حازوا شهرة وقتيَّة عن غير استحقاق فلا نسمع بهم ولا نذكرهم، وإذا ذكرناهم فعلى سبيل التفكه فقط