بقلم: د. خالد فهمي
ليس غريبًا في أجواء الأزمة تعيينًا أن نفزع إلى حائط الأمان الذي يحمي من آثار الأزمة ومن فتنِ التيه والضلال واختلاطِ الأوراق والتصورات.
وتأصيل القضايا المعاصرة في ضوء الكتاب والسنة يجب أن يكون من لوازم الحركة العلمية، لا سيما في اشتباكها مع الواقع.
والأمةُ اليوم- وهي تدخل مرحلةً جديدةً على الصهيونية العالمية في تاريخها لنصوصها المقدسة- أحوجُ ما تكون إلى مراجعةِ تصوراتها التاريخية في ضوءِ المرجعية الإسلامية التي ينبغي أن تحكمَ مسيرتها ومستقبلها.
في هذا السياق يأتي كتاب (نهاية دولة يهود.. دراسة موضوعية تحليلية في ضوء القرآن والسنة) للدكتور حمدي عبد اللطيف حمدان.
ويكتسب هذا الكتاب أهميةً بالغةً بسبب عدة أمور تُحيط به وتنبع منه في الوقت نفسه؛ منها ما يلي:
أولاً: أنه كان في الأصل رسالة تقدَّم بها صاحبها لنيل درجة علمية عالمية من جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بالسودان.
ثانيًا: ارتباطه في مناقشة القضية بنصوص الأصلين الأعليين الحاكمين لثقافة الأمة، وهما القرآن الكريم والسنة النبوية، في تحليلٍ وجمع وتفصيلٍ وترجيحٍ.
ثالثًا: صدوره في توقيتٍ تتعرَّض فيه القضية الفلسطينية ويتعرَّض فيه رجالها المجاهدون الذين يصدرون في جهادهم عن رؤيةٍ إسلاميةٍ لخطرٍ ماحق ولمرحلةٍ جديدةٍ ترفع عنوانًا لا يشكُّ فيه أحد؛ يقول هذه مرحلة محو القضية وإسكات الصوت الإسلامي المدافع عنها.
رابعًا: صدوره عن مؤسسة إعلامية من أهم المؤسسات المعاصرة التي تعتني بأدبيات قضية فلسطين عنايةً ظاهرةً تستدعي الدراسة والتأمل، فضلاً عن توقيتِ خروجه وكثيرٌ من أبناء العالم الإسلامي مصابون باهتزازٍ في اليقين في النصر.
والكتابُ في خطته العلمية يتضمن أحدَ عشرَ فضلاً كما يلي:
1- حول الإفسادتين: (الإفسادة الأولى والثانية كما جاءت في المصادر التفسيرية- مناقشة آراء العلماء حولهما).
2- إفسادهم الشنيع: (صور من إفساد اليهود- القضاء على الإفسادة الأولى).
3- استمرارية القضاء على الإفسادة الأولى: (بنو قريظة وخيبر- من إفسادهم الشنيع).
4- المعركة القادمة: (أدلة الإفسادة الثانية- قوة اليهود هذه الأيام).
5- استمرار الإمداد: (الإمداد بالقوة البشرية- بعض قوة اليهود- وجعلناكم أكثر نفيرًا).
6- آراء العلماء المحدثين والرد عليها: (آراء متفرقة لبعض العلماء ممن تأثروا بالأقدمين- آراء المحدثين والرد عليها).
7- تدمير إفسادتهم الثانية: (إفسادة اليهود- الملحمة الكبرى).
8- أضواء قرآنية تشير إلى نهاية دولة يهود: (القرآن الكريم يكشف سلوكيات اليهود- قرب نهاية دولة اليهود).
9- مصابيح نبوية: (الأحاديث النبوية الشريفة التي تشير إلى نهاية دولة يهود- الحرب مستمرة مع اليهود حتى يُقضى عليهم- بشارات النصر).
10- أشراط الساعة: (العلامات الصغرى التي وقعت- الإعداد).
11- جيل التحرير.. جيل النصر: (صفات لا بد منها- إعداده وتدريبه).
والحق يقتضي أن نُقرر أن هذه الدراسة نموذجٌ طيبٌ للدراسات القرآنية المنتمية إلى التفسير الموضوعي بدرجةٍ كبيرةٍ، ونموذجٌ طيبٌ للتحليل والمناقشة وفحص الأدلة والأقوال، لا سيما أنها تعالج قضيةً شديدةَ الخطورة في التراث التفسيري من جانب، وفي المصادر التفسيرية المعاصرة من جانب آخر، وإن فاتها عددٌ من الأصوات المهمة جدًّا في هذا الباب، كما سوف نرى، فيما يمكن أن نرصده من ملاحظات.
براعة المفتتح
إن أيةَ معالجة للقضية الفلسطينية تنطلق من رحمِ الذكر العزيز، وما دار في فلكه من السنةِ المشرفةِ، تُعلن عن براعةِ المفتتح.
ومن هنا فإن تثمين معالجة القضية- المشكلة في التاريخ الإسلامي المعاصر من الوجهة القرآنية يُعطي الدلالةَ على ضرورةِ وصل واقع الأمة في أزماتها بالكتاب الذي تعبَّدها اللهُ به؛ لأنها مأمورة بتحكيمه في النوازل التي تُلم بها باعتباره الشرعة والمنهاج.
ويأتي التثمين للطرحِ الذي يُقدِّره الكتاب من بابٍ جديدٍ هو قيمة تأكيد ضرورة تغذية اليقين في نصرِ الله تعالى لأصحاب القضية المنتمين لدينه، لا سيما في زمنٍ يُمكن أن نرفع عليه شعار: اهتزاز اليقين.
والتفت الدكتور حمدي حمدان في مقدمة دراسة إلى أنَّ ظهورَ الكيان الصهيوني كان مقصودًا من ورائه دراسة مجموعة من الدلالات اختلطت فيها العلامات بالإجراءات والوسائل، كما يلي:
أ- إضفاء البُعد الديني على هذا الكيان انطلاقًا من استثمارٍ مخادعٍ لنصوصٍ دينية.
ب- التأثير على النصارى عن طريقِ استثمار الشركة في الإيمان بالعهد القديم.
ج- إعادة تخليق النبوءات التوراتية واستثمارها في العصر الحديث سياسيًّا وعسكريًّا.
إعجاز النص الكريم في الكشف عن الإفسادتين
وفي فصلٍ مُهمٍّ من فصول الدراسة يعرض المؤلف للآراء التفسيرية القديمة لآراء عددٍ من المفسرين القدماء لقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيد﴾ (الإسراء).
وأيًّا ما كان أمر الذين كسروا اليهود في أعقاب الإفسادة الأولى؛ هل هو "بختنصر" أو "سنحاريب" ملك الموصل وجنوده، فإن الثابت الذي أجمع عليه المفسرون أن ثمة انكسارةً قديمةً بسبب عصيانهم وغُلُّوِهم بالباطل والطغيان ووحشيتهم، وأن الراجحَ من استجماع الأدلة، لا سيما في وصف الذين كسروهم بأنهم "عباد لنا"، انطباق على المسلمين في عهد النبوة الكريمة.